مقالات

المؤسساتية في العمل العائلي

مقدمة

خلق الله سبحانه وتعالى الناس كلهم بنفس المكونات الطينية والجسدية متمثلين في صورة أبويهم آدم وحواء، ثم قضت حكمته تعالى أن يبثهم أي يوزعهم وينشرهم (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً)، فبثهم عبر متغير الزمان فتكونت عندنا الأجيال المتعاقبة التي يخلف بعضها بعضاً، وبثهم على متغير المكان فنتجت عندنا الشعوب والقارات والأمم، وبثهم على الأصلاب والأنسال وأصول الرجال فجعلهم شعوباً وقبائل (أي عائلات وحمائل).

BelalAgha
بقلم: م. بلال الأغا

كل هذا التنوع في الخلق لاعتبارات مقاصدية كبيرة، ومنها أن يختلفوا (ولذلك خلقهم) في فهم الحياة والتعامل مع كل ما فيها حسب زمانهم ومكانهم وأنسابهم التي بثهم الله تعالى عبرها، لينتج عندنا تنوع فسيفسائي واسع الطروحات والخيارات في كل شيئ، ثم بنى على ذلك المقصد الكبير للخلق والتنوع أن يأمر عباده بأمرين هما : تعارفوا وتعاونوا.

نتعرف على الأجيال التاريخية السابقة لنا فنأخذ من غيرنا العبرة والخبرة والتجربة، لنبني عليها أن نتعرف في نفس زماننا وجيلنا على العائلات الأخرى والشعوب الأخرى والثقافات الأخرى والديانات الأخرى ثم نتعاون في بيننا، لنتعاون فيما بيننا في النصيب الزماني والمكاني الذي نشترك فيه مع أفراد جيلنا.

يتعاون البشر جميعاً في كل الأرض ليصطلحوا ويتفقوا على مشتركٍ انساني يعيشون جميعاً تحت لوائه هو (المشترك الإنساني)، ثم يتعاون أهل الدين الإسلامي ليكونوا مشتركاً إسلامياً موحداً لدى جميع المسلمين وهو (المشترك الديني)، ثم يتعاون أبناء الأمة العربية ليُكَوِّنِوا مشتركاً عربياً موحداً يعيشون في ظله بما لا يتعارض مع المشترك الديني السابق وهذا اسمه (المشترك الأممي)، ثم تتعاون عائلة فيما بين أفرادها ويرتبوا جهودهم أثناء وجودهم وحياتهم في نصيبهم من الزمان والمكان الذي هم فيه ليُكَوِّنُوا المشتركَ العائلي بما لا يتعارض مع المشترك الأممي لأمة العرب ولا المشترك الديني لأمة الاسلام، هذا هو روح الفهم المقاصدي للخلق والتنوع المكنون في الأمر الرباني في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

وقوله تعالى : “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ“.

أولاً: فكرة التجميع العائلي ابداع

في محافظة خان يونس خرجت علينا في الآونة الأخيرة صور اجتماعات بين مشرفي المواقع الالكترونية للعائلات للاتفاق على سياسات اعلامية والكترونية موحدة، ثم أخرى بين مندوبي العائلات للاتفاق على أنشطة موحدة في مجالات تطوعية وصحية واجتماعية متنوعة وكلها من الأفكار الابداعية التي تستحق الثناء الحسن والجميل، فكانت هذه الخطوات هي الأولى نحو التفكير التجميعي والتأليفي والتعاوني (هذا فيما أعلم أنها الأولى، لأن جهلي بغيرها لا يقلل من شأن كل سبق في هذا المجال).

أقول لكل القائمين على مثل هذه الأفكار والتجمعات الابداعية، بورك جهدكم، أحسنتم أن رفعت لواء تجميع الجهود في هذا الجيل الحالي مرة أخرى بعد أن كانت مثل هذه الرؤى مجرد صيحات أو تمنيات تختلج صدور الرجال، فنشط لها بعض المثقفين والمميزين والمبدعين والشاعرين بجدية الدور الملقى على عاتقهم، نشطوا فترة من الزمن ثم لم تلبث أن تطرق اليهم داء كل عمل غير منهجي ولا مؤسسي، فبدأت المعوقات العائلية تطفو على السطح، وبدأت مقاومة التغيير تتحرك، ولم تجد لديهم النَفَسَ المؤسساتي المنظم الذي يُبقى جذوة مقاومة المقاومة تقاوم تلك المقاومة حتى يكتمل الأمل، بل فترت الهمم، وخارت القوى، وانشغل الجميع في شأنه الخاص، واضمحل المشروع واختلفت الآراء، ولم يعد للمركب ربان واحد، بل وصار كل واحد يُجدف في السفينة بالاتجاه الذي يريده بسبب الايدز الداخلي لكل المشاريع التي لم يتم حقنها بالمصل المضاد لها.

لذلك نقول لن تكتمل رؤيتكم وتنضج وتستوي على سوقها حتى تستفيدوا من خلاصات ما أنتجت عقول البشر في مجال ادارة البشر لبعضهم وتعايشهم السليم المتناسب مع الطبيعة البشرية، ومن أعظم ما أنتجت عقول الناس مستفيدة مما خلق الله حولها ما يعرف في علم الادارة والتنمية البشرية والتدريب اليوم بالمؤسسية أو المؤسساتية أو التفكير النظمي والسلوك المنظومي وغيره من الأسماء والمصطلحات.

كل علم لا يوظف في الحياة هو ضرب من الترف الفكري والمعلومات الثقافية العامة، لذا كل جيل يتعلم يرتفع بعلمه بقدر ما يطبق مما تعلم من علوم عصره، أردت في هذا المقال بعد عون الله تعالى أننتعاون في بيننا لنضع بين أيدي جميع العائلات في فلسطين وفي كل الدنيا توظيفاً للأفكار الجميلة والابداعية المطروحة في علم المؤسسية والمطبقة على العمل العام ، لنوظف نفس هذه المفاهيم في العمل العائلي، من أجل الوصول الى صيغ علمية ناضجة بمشاركة كل العقول العلمية والمتخصصة وصاحبة الخبرة في الحياة لنجعل هذا التوظيف عبارة عن صيغة عامة للمؤسساتية في العمل العائلي تستفيد منه كل عائلة تنضج قياداتها وأفرادها ورموزها وفروعها لتستعين بعلم المؤسسية.

فتضع كل عائلة هذه الرؤية (الناضجة بمشاركة الجميع) على طاولة المناقشة لدى مثقفيها وأصحاب الفكر والرأي والقرار وتوزيعاتها الجغرافية وممثليها ليُنزلوها على واقع وخصوصية كل عائلة بما يتناسب معها، وتضع كل عائلة خارطة طريق وجدول زمني لتطبيق الرؤية الكاملة لها حتى لو استمرت في المحاولات عدة سنوات قادمة، كلما سنحت لها الفرصة أن تطرح المؤسسية حتى تصبح ثقافة مشتركة يتقبلها الجميع ويشعروا بحاجتهم وجوعهم الشديد لتطبيقها لأنها البلسم الشافي من كل الأمراض والأعراض، والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.

ثانياً: مضى زمن الكاريزما العظيمة في شخص واحد

لو استعرضنا المخاتير على مستوى تاريخ العائلات في المائة سنة الأخيرة ، سنلحظ حتماً أن الشخصية الكاريزمية للقائد أو المختار قد تتسلسل في جيل معين سابق لفترة معينة ثم تنقطع، ومثله في الأمم والشعوب رؤساء أمريكيا وأوروبا واسرائيل والدول العربية وغيرها من التجمعات البشرية اليوم لا تجد الشعوب والأمم الشخصيات الكاريزمية التي تُجمع عليها بلا منازع.

وليس هذا عيباً في القيادات والشخصيات الحاضرة، ولكن مضى عهد القائد الكاريزمي الذي يفهم في كل شيئ، بل نحن اليوم في عهد القادة المتخصصين في مجال الذين يتطلب عملهم أن يحيطون أنفسهم بالمتخصصين وأصحاب الخبرات في المجالات اللازمة الأخرى، وهذا هو المعنى الحقيقي والمحتوى العملي للمؤسساتية، أن يشعر الجميع أن لديه نقصاً حقيقياً يكمله بمميزات الآخرين، فلا يرى أحد أن الآخرين صفر وهو كل شيئ.

ثالثاً: المعالم الرئيسية للمؤسساتية العائلية

نستفيد من معالم المؤسساتية التي كتبها الدكتور طارق السويدان والدكتور محمد أكرم العدلوني حفظهما الله ورعاهما ما يناسب العمل العائلي، ويتمثل ذلك في المعالم التالية:

1) الرؤية الاستراتيجية للعائلة: وتشمل المحاور التالية:

  • رؤيتنا لعائلتنا وأولوياتنا حتى عام 2020م
  • اشتقاق الرؤية المُلهِمَة (اسم فاعل من الفعل ألهم)
  • تحديد القيم المشتركة (المشترك العائلي)

2) المنهجية المؤسساتية في صناعة القرار العائلي واتخاذه : وتشمل المحاور التالية:

  • تصميم منهجية مؤسساتية لصناعة القرار الناضج
  • اعتماد آليات اتخاذ القرار الرشيد
  • وضع نظام رقابي ومتابعة وتقييم لآثار القرارات بعد تنفيذها (الواقعية بعد التنفيذ)

3) مؤسسة القيادة أو المخترة: وتشمل المحاور التالية:

  • المجلس الأعلى المنتخب (الشورى- الشيوخ- الأعيان)
  • المختار ومؤسسته التنفيذية

4) الادارة الفاعلة للموارد البشرية وتنميتها: وتشمل المحاور التالية:

  • تفعيل كفاءات العائلة وتحريكها لنشر علمها
  • تنمية المهارات ومواكبة العلوم والمستجدات
  • اعداد قيادات المستقبل والتعليم المستمر

5) المؤسساتية في العمل الاقتصادي العائلي: وتشمل المحاور التالية:

  • اعداد وتدريب شباب الأعمال وتأهيلهم ليصيروا رجال أعمال المستقبل
  • تفعيل الطاقات البشرية والقضاء على البطالة
  • صناعة العائلة الفاعلة المنتجة وليس المستهلكة

6) اللوائح الداخلية الناظمة: وتشمل المحاور التالية:

  • اعتماد آليات واضحة في اختيار المؤسسة القيادية العليا والتنفيذية
  • وضع آليات علمية لضبط منهجية تغيير المؤسسة القيادية (مدة الدورة وغيرها)
  • وضع أنظمة ولوائح تحكم العمل داخل اللجان وفيما بينها

7) الهياكل واللجان العاملة: وتشمل المحاور التالية:

  • وضوح الهيكل التنظيمي العائلي
  • التوزيعات المناطقية ومقدار التمثيل
  • اللجان العاملة ومستوياتها بين المركزي والمحلي

8) الشباب والتدريب على مهارات الحياة: وتشمل المحاور التالية:

  • تمكين الشباب وتنويع مهاراتهم
  • اكمال الدراسات العليا
  • رعاية المميزين والمبدعين

9) التسويق وامتلاك التقنية الحديثة والبنية التحتية: وتشمل المحاور التالية:

  • التسويق الاعلامي المتوازن بكل تواضع
  • الموقع الالكتروني والاعلام الجديد
  • الدوواين والاماكن العائلية ووسائل النقل

10) المحكمة العائلية: وتشمل المحاور التالية:

  • صياغة مدونة السلوك العائلي القويم داخلياً وخارجياً فيما يخص الحقوق والعلاقات مع الآخرين
  • محاكمة المخالفين داخلياً
  • وضع لائحة عقوبات مناسبة

تلك عشرة كاملة، مع أن كل واحدة منها تحتاج الى شرح مفصل، وآليات مناسبة، لكني في النهاية أفتح المجال لتنضيج الرؤى والآراء، ولا يحقرن أحدكم رأيه، فلعله يصدق الله فيجعل الله تعالى في رأيه الخير والبركة ، وأشكر لكم سعة صدركم، وصبركم على طول الكلام .

أخيراً أقول لكل عائلة تشاور نفسها هل هي ناضجة للأخذ بالمؤسساتية أم لديها معوقات داخلية تمنعها، تأملي في هذه الصورة واستخلصي العبرة بصمت:

تسقط شجرة فيسمع الكل دوي سقوطها، بينما تنمو غابة كاملة ولا يسمع لها أي ضحيح، الناس لا يلتفتون لنموك وتميزك بل لسقوطك.

ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم، وتب علينا انك أنت التواب الرحيم، اللهم آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خالد صافي

خالد صافي مدرب في مجال الإعلام الجديد ومهتم بالتصوير والتصميم، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى