منوعات أدبية – الحلقة 122
بسم الله الرحمن الرحيم
أحباءنا ومتابعينا الأفاضل … استكمالا لما بدأناه في الحلقة السابقة ، سنتناوله من خلال هذه الحلقة 122 ونتمنى ان تنال إعجابكم وتجدوا فيها الفائدة …
نبه الأديب عبد الله مكنون إلى أنَّ رسالة الأدب لم تُؤَدَّ كما يجِب إلى الجمهور العربي، لما يَعْتري واقع العالم العربي من صراعات بين تَيَّارات اجتماعِيَّة مُتَدافِعَة واتِّجاهات سياسِيَّة مُتَأَذِّيَة من مُسايَرتِه، ولأنَّ الأدب لم تكن له رسالة يُعْنى بها في الدَّرجَة الأولى إلاَّ رسالة إقامَة الأَلْسِنَة وشَحْذ الأَذْهان، لهذا وجَّه خطابه إلى من يؤمنون بقُدْسِيَّة رسالته وينُاضِلون عنها أن يَأْخُذوا هذا الأمر بالجِد، فيُراجِعوا النُّصوص الأدبيَّة في لُغَة الضَّاد ويَعْتنوا بالآثار القيِّمَة، ليَتخيَّروا منها المادَّة الأساسِيَّة التي يمكن أن تدخل في بناء صرح الأدب العربي، ويعتمدوا على اللُّب دون القِشْر، ويَهْتمُّوا بالمعاني والمَقاصِد لا بالألفاظ والقَوالب، ويَدْرُسوا الأدب للتَّربية والتَّوجيه، وفي هذا الشأن يقول: (إنَّ مما دَرَجْنا عليه أن نَدْرًس الأدب للمُتْعَة لا للتَّوجيه ، وأن نُعْجَب بالصِّيَغ الكَلامِيَّة، ولا نَحْفَل بما تَتضَمَّنه من دَلالات مَعْنوِيَّة، وقد آن لنا أنْ نُسْقِط من الأدب العربي كلَّ نَصٍّ لا يُؤَدِّي مُهِمَّة في تثقيف فِكْر، أو تَغْذِيَة عاطفة، أو بَعْثِ روح في شبابنا الطَّموح، ومن ذلك أدب المجون والاستجداء، والحِيَل اللَّفظية المُسَمَّاة بالمُحَسِّنات البَديعِيَّة، ثم نُعَوِّضُها بالنُّصوص الهادِفَة التي أَهْمَلْنا كثيرا منها، حتى بَقِيَ أدبنا ضاوِيًا يشكو فَقْر الدَّم) .
لهذا دعا إلى دراسة القرآن الكريم والحديث الشريف، وما يلحق بهما من كُتُب الفقه، والكلام، والتاريخ، والرَّحلات .. دراسة موضوعِيَّة، لا تقتصر على الشَّكل دون المضمون، أو العرض دون الجوهر، كما دعا إلى الاعتناء بهذه الآثار القَيِّمَة ودِراسَتها دِراسَة المُتَنخِّل لها، المُتَعرِّف لدَخائِلها، حتى أنه اعتبر من يذهب مذهب دراسة الأدب كصناعة لفظِيَّة وزَخْرفَة كلامِيَّة يَقْترِف جِناية على رسالته، فقال (وكما كان تَقْسيمُنا للأدب بحسب الأقاليم والعصور جِناية على وَحْدتِه، كذلك كان اعْتِبارُنا للأدب صِناعة لفظِيَّة وزَخْرفَة كلامِيَّة جِناية على رسالته، فأعظم النُّصوص الأدبِيَّة في اللُّغَة العَربيَّة، وهو القرآن، لا يُعَدُّ في مادَّة الأدب عند كثيرين .. والطَّريقة التي نَدْرُس بها هذا النَّص تُبَيِّن الآثار التي تركها في الأدب من حيث التَّعبير والأسلوب فحسب، وأما دراسته هو دراسة موضوعية على الأقل، كما ندرس ديوان الحماسة أو رسائل البديع مثلا، فهذا ما لا يهتم به أحد، وإلا فأين هو هذا الكتاب في أدب العرب الذي يعرض ولو سورة واحدة من القرآن، ولْتَكُن سورة يوسف مثلا، ولو على أنها قصة : في نماذجه الأدبية؟ ومثل هذا يُقال في الحديث الشريف، الذي لا يكسبنا بلاغَةً وثروةً كلامِيَّة فحسب، وإنما يكسبنا ثقافةً فكرِيَّة وخُلُقِيَّة) وتأتي بعد ذلك كتُب عديدة في الفقه، والكلام، والتَّصوف، نُبْعِدُها عن حظيرَة الأدب، وهي تحتوي على فصول من أقوى ما كُتِب في الدِّفاع عن عقيدة، أو تقرير حُكْم، أو تحليل خاطِرٍ نفسي، وإنَّ الفصلَ الواحِد منها ليُفيد في إنارَة العقل، وتلقينِ الحُجَّة أضعافَ ما تفيدُه كثيرٌ من الرَّسائل المُتكَلَّفَة، والقصائد المُزَيَّفَة .. وتأتي كتُب التَّاريخ والرَّحلات، وفيها من العِبَر والدُّروس ما لا يصِحُّ للفرد العربي أن يجهله، لأن جهله هو الذي يُيْقيه على هذه الحالة من الرِّضا والاستسلام .
2 ـ نظرية : “الفن للفن كصناعة ورياضة لفظية” :
أما بخصوص تلك الآراء التي تتبنَّى نظرية : “الفن للفن كصناعة ورياضة لفظية”، وظيفتها أن تُلَبِّي المتعة الذهنية والذَّوقِيَّة، وتعتبر العمل الأدبي محْضَ فَنٍّ قد تجرَّد من أيِّ اعْتِبار للقيم والأخلاق، فهي آراء تفتقر إلى كثير من التّفكير في مستقبل الإنسانِيَّة، لأنَّها تَطْمَح إلى اتِّخاذ الأدب مَطِيَّة للتَّحَرُّر من الضَّوابط والقيود، والانْفِلات من سُلطَة المُراقبَة والمُتابعَة، والنَّقْد والتَّقْويم للعمَل الأدبي، كعَملٍ ينبغي أن يَحْمِل قيمَةً تتَّصِل بالحياة والوجود الإنساني، كما تَطْمَح إلى جَعْل وظيفة الأدب لا تَتعدَّى الصِّناعة الفَنِّية، والانْضِباط بشُروط الإِخْراج الفَنِّي والبراعَة في الأداء ..
فكيف يمكن للأدب أن يُنْشِئ جيلاً يخدم أمَّته، ويَرْقى بثقافة الفرد والمجتمع وهو غارِقٌ في الوَحْل ؟ !! وكيف يَسْتحِقُّ الأدب أن يكون أدبًا إنسانِيًّا سامِيًا وهو مُحايِد لكلِّ ما له ارتباط بالأخلاق والفِطَر السَّليمة ؟ !
وكيف يَسْتحِقُّ الأدب أن يَحْيا ويَنْمو خارج بُؤْرَة الفَساد، والانْحِلال، والضَّياع ؟!! وكيف يَسْتحِقُّ الأدب أن يَحْيا ويَنْمو خارج تَجاذُبات النَّفس التي تُحْرِقها الرَّغبات وسَكرات العِشْق والهُيام، التي تُدَغْدِغ بها مشاعر من تشاركهم تَصْوير بُؤْسهِم الأسود، لاسْتِجْداء عواطفهم أو لتَفْريغ مَكْبوتات خالية من كلِّ جَوْهَر ؟!
فإذا كان الأدَب الذي يُمْسِك بدَنادِنه جُمْهور القُرَّاء قد عَـجَّ بطَنينِ الأَقْلام السَّاقِطَة، وطفَح بالأَذْواقِ الفاسِدَة، وانْحَرف بالفِطَر والطَّبائِع السَّليمَة عن مَنْهجِه السَّوي، وطريقَتِه المُثْلى في الأداء والسُّلوك والتَّعبير ..
فلا عجب إن صار من يَنْتسِب للأدَب عالَةً على الأدَب، وعارًا يصِمُ جَبينَ الأَقْلام بأدبٍ ساقِط، فإذا لم تُحَرِّك الأديب قَضِيَّة تَسْتغرق أنْفَس أَوْقاته، ولا تَشْغَل ذهنه رسالة عظيمة يُكافح لأَجْل نَشْرِها وتَبْليغِها، فلا يستحِقُّ أن يكون أديبًا ..
ومن كان هَمُّه الأَوْحَد هو إِثْبات الذَّات لا إثبات الأخلاق والآداب، وكان مُبْتغاه طَلبُ الشُّهْرَة والسُّمْعَة والمَنْزِلَة الرَّفيعَة، بصُوَر مُشَوَّهة وأساليب مُسيئة للأدَب والثَّقافة، وأصولِ اللُّغَة والكتابَة، فلا يستحِقُّ أن يكونَ أديبُا ..
ولا عجَب إذًا أنْ تَخْدَش هذه الأَقْلام السَّاقطة مَشاعِر النُّخَب المثقَّفة وأصحاب الأذواق الرَّفيعة، وأنْ يستمِر من دونهم في جهلهم وأمِّيتهم الثقافية، ولا يَفْقَهون من مَناهِج القِراءَة إلا النَّزْر اليَسير، ولا يتَعلَّمون ما يُهَذِّبون به السُّلوك وما يُقَوِّمون به اللِّسانَ العَربي، من أُصول التَّعْبير، وقَواعِد اللُّغَة والنَّحْو والتَّصْريف، وأَساليب الكتابة الصَّحيحة، إلا ما كانَ مُحاكاةً وتَقْليدًا لما هو محْفوظ ومُشاع ومُبْتذَل ..
ولكن !! مهما عَجْعَجت هذه الأقلام وصَفَّق لها جمهور من السُّذَّج والمُريدين، فمَصيرُها إلى مَزْبلة التَّاريخ ونِفايَة القِيَم ..
والى لقاء في حلقة قادمة بإذنه تعالى …
إعداد الأستاذ/ أنس عبد المجيد العقاد
المصدر: موقع عائلة العقاد